خلال هذه السنة اجتمعت مع عائلة زوجتي الممتدة بمزرعة الأسرة في ولاية فيرجينيا الأميركية مستغلاً الأجواء العائلية الدافئة للاحتفال باليوم الوطني الأميركي الذي يصادف الرابع من يوليو كل سنة، ولكن هذه المرة تزامن العيد الوطني مع يوم عمل وسط الأسبوع، ولذا كان لزاماً على العائلات الأميركية العاملة سواء الأطباء، أو المهندسين، أو موظفي الحكومة، تبكير الاحتفال من يوم الأربعاء إلى يومي السبت والأحد السابقين كي يتسنى الاجتماع بأفراد العائلة وتخليد الذكرى الوطنية للولايات المتحدة، وبحلول الثالث من الشهر المنصرم كان البيت قد بدأ يخلو من ضيوفه بعدما ذهب كل واحد إلى حال سبيله لاستئناف أسبوع جديد من العمل، مع كل ما يخلفه ذلك في النفس من شعور بالإحباط والخيبة لدى خلو البيت من زواره وافتراق العائلة. وهذا الحدث الوطني الذي لم يتزامن مع أفضل أيام الأسبوع جعلني أتأمل التوقيت وأطرح السؤال: لماذا يجب أن يكون اليوم الوطني الأميركي في الرابع من شهر يوليو من كل سنة؟ ولا سيما أن المؤرخين والمشتغلين بالتاريخ ليسوا متأكدين تماماً من أن وثيقة إعلان الاستقلال الأميركي، التي يحتفل بها في الرابع من يوليو، قد وُقعت في ذلك اليوم بالذات، وكل ما هنالك أن الكونجرس الأميركي اختار هذا اليوم بعد عقود لاحقة ليحتفل به كيوم وطني تخليداً لذكرى الاستقلال والتحرر من الحكم البريطاني، فلماذا إذن لا يتم التعامل مع التوقيت بنوع من المرونة ليتناسب أكثر مع ظروف الناس؟ ولنتذكر هنا الأعياد الدينية مثل عيد القيامة المسيحي الذي يُحتفل به طبقاً للتقويم القمري ويأتي دائماً يوم الأحد الأول بعد اكتمال القمر، بحيث ينطوي هذا الحدث الديني المهم على مرونة كبيرة في التوقيت يمليها الشهر القمري. ولكن بإثارتي لهذا الموضوع مع أقربائي وأفراد العائلة تعرضت لهجوم كاسح ولسيل من الانتقادات اللاذعة، إذ كيف يمكنني، أنا البريطاني الجاهل، فهم حقيقة اليوم الوطني الأميركي وما يحمله من رمزية كبيرة تشير إلى ميلاد بلد جديد سيتحول في غضون عقود قليلة إلى قوة عالمية كبرى؟ وكيف يمكنني تجاهل تاريخ نشوء الدولة الوليدة في 1776؟ ولأني لم أُرد الدخول في جدال مع العائلة وأفسد عليهم فرحتهم والأجواء الاحتفالية آثرت الصمت والتراجع، وإن كان النقاش ترك في ذهني أسئلة أخرى مرتبطة بالهوية ومظاهر التعبير عنها، لاسيما الحماس الذي يتملك الناس عند الاحتفال بالأيام الوطنية التي لا تكاد تخلو دولة في العالم منها. فلو بحثنا عن أعياد اليوم الوطني في الموسوعات ومحركات البحث على الإنترنت لوجدنا أن أغلب بلدان العالم تحتفل بما يسمى باليوم الوطني الذي هو في الغالب تخليد لذكرى الاستقلال حتى وإن كان هذا الاستقلال ممنوحاً لعدد كبير من تلك الدول على غرار انسحاب الدول الأوروبية حيث انسحبت من مستعمراتها السابقة في إفريقيا وآسيا والمحيط الهادي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وعلى رغم وجود أعياد وطنية تحتفي فعلا بثورات حقيقية مثل يوم "الباستيل" في فرنسا والاحتفال بالثورة في كوبا وتخليد معارك البطولة والصمود ومقاومة الشعوب للاستعمار، إلا أن العديد من تلك الأعياد أيضاً تخلد مولد رئيس جمهورية، أو زعيم سواء في الحاضر، أو في التاريخ القديم. ثم هناك بلدان مهمة على الساحة الدولية مثل بريطانيا بما تتضمنه من إنجلترا واسكتلندا وبلاد الغال لا تحتفل بأي عيد وطني وتكتفي بتخليد ذكرى بعض القديسين مثل القديس جورج مع استمرار العمل دون إجازة، وحتى هذه المناسبات البريطانية نادراً ما يعرفها الناس، أو يهتمون لشأنها، ولو كان الأمر نفسه في أميركا التي يلوح فيها الناس بالأعلام خلال اليوم الوطني لوقعت ضجة كبرى. والحقيقة أن الأيام الوطنية التي يحتفل بها في العالم إنما تجسد على غرار الأعلام الوطنية والطوابع البريدية رغبة في ترسيخ هوية متفردة والاعتراف بالخصوصية، والأمر نفسه ينطبق على الأناشيد الوطنية للبلدان والدول التي تكتسي طابعاً أكثر خصوصية في بعض الأحيان. فمن المعروف أن معظم البلدان تتغنى بتفردها وخصوصيتها من خلال نشيد وُضعت كلماته بعناية لتمجيد التاريخ وصنع المصير، ومن اللافت أن الذين يشاهدون الألعاب الأولمبية في لندن خلال الصيف الجاري سيفاجأون بالعدد الكبير من الأناشيد الوطنية المتنوعة وبالمعزوفات الكثيرة التي يتعين أداؤها خلال التظاهرة الرياضية؛ وبالرجوع إلى التاريخ نجد أن أول ظهور للنشيد الوطني كان في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر عندما صعدت فكرة الدولة القومية في أوروبا الغربية وتكرست المشاعر القومية التي ستتطور لتتحول إلى وبال على الغرب والعالم. وإذا تحلينا بقدر من الصراحة فإننا سنقول إن معظم تلك الأناشيد هي موسيقى سيئة للغاية، فالنشيد الأميركي لا يمكن غناؤه بصوت عادي، والنشيد الفرنسي يقطع نفس المغني، والأمر نفسه ينسحب على النشيد الوطني البريطاني، وربما يكون النشيد الأقل سوءاً المعزوفة الألمانية التي وضع نغماتها الموسيقار "هايدن"، وحتى الموجة الثانية من الأناشيد الوطنية التي ظهرت بعد فترة الاستعمار واستقلال الدول الحديثة فهي ظلت على قبح بعضها تمجد القومية والوطن دون أن تخلق انتصاراً حقيقياً، ومع ذلك لو قلت هذا الكلام للناس لاستبد بهم الغضب ولرموك بالحجارة، زد على ذلك أن تعدد الأناشيد الوطنية وكثرتها يضع الفرق الموسيقية للبلدان التي تنظم تظاهرات رياضية دولية مثل بريطانيا حالياً في مأزق، إذ يتعين عليها حفظ جميع الأناشيد الوطنية للدول المشاركة لتعزفها على منصة التتويج، وبالطبع كان ذلك يخلق تحديات جمة تواجه فرق العزف لأداء تلك الأناشيد دون أخطاء قد تؤجج غضب مواطني البلدان المعنية. ولحسن الحظ تم الالتفاف على هذه الصعوبة من خلال الاقتراح الذي وافقت عليه اللجنة الأولمبية هذه السنة بتسجيل الأوركسترا الملكية البريطانية المكلفة عزف الأناشيد الوطنية مسبقاً ليُعاد عزف 90 ثانية منها فقط عند تتويج أحد الفائزين من تلك الدول.